الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عن الْمُضِيِّ في الْإِحْرَامِ وهو الْمُسَمَّى بِالْمُحْصَرِ في عُرْفِ الشَّرْعِ فَالْكَلَامُ في الْإِحْصَارِ في الْأَصْلِ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ أَنَّهُ ما هو وَمِمَّ يَكُونُ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ وفي بَيَانِ حُكْمِ زَوَالِ الْإِحْصَارِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحْصَرُ في اللُّغَةِ هو الْمَمْنُوعُ وَالْإِحْصَارُ هو الْمَنْعُ وفي عُرْفِ الشَّرْعِ هو اسْمٌ لِمَنْ أَحْرَمَ ثُمَّ مُنِعَ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ كان الْمَنْعُ من الْعَدُوِّ أو الْمَرَضِ أو الْحَبْسِ أو الْكَسْرِ أو الْعَرَجِ وَغَيْرِهَا من الْمَوَانِعِ من إتْمَامِ ما أَحْرَمَ بِهِ حَقِيقَةً أو شَرْعًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا إحْصَارَ إلَّا من الْعَدُوِّ وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ} نَزَلَتْ في أَصْحَابِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حين أُحْصِرُوا من الْعَدُوِّ وفي آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ دَلِيلٌ عليه وهو قَوْلُهُ عز وجل: {فإذا أَمِنْتُمْ} وَالْأَمَانُ من الْعَدُوِّ يَكُونُ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا لَا حَصْرَ إلَّا من عَدُوٍّ وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ} وَالْإِحْصَارُ هو الْمَنْعُ وَالْمَنْعُ كما يَكُونُ من الْعَدُوِّ يَكُونُ من الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ عِنْدَنَا لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ إذْ الْحُكْمُ يَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا السَّبَبَ وَعَنْ الْكِسَائِيّ وَأَبِي مُعَاذٍ أَنَّ الْإِحْصَارَ من الْمَرَضِ وَالْحَصْرَ من الْعَدُوِّ فَعَلَى هذا كانت الْآيَةُ خَاصَّةً في الْمَمْنُوعِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل: {فإذا أَمِنْتُمْ} فَالْجَوَابُ عن التَّعَلُّقِ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْنَ كما يَكُونُ من الْعَدُوِّ يَكُونُ من زَوَالِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ إذَا زَالَ مَرَضُ الْإِنْسَانِ أَمِنَ الْمَوْتَ منه أو أَمِنَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَكَذَا بَعْضُ الْأَمْرَاضِ قد تَكُونُ أَمَانًا من الْبَعْضِ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الزُّكَامُ أَمَانٌ من الْجُذَامِ. وَالثَّانِي أَنَّ هذا يَدُلُّ على أَنَّ الْمُحْصَرَ من الْعَدُوِّ مُرَادٌ من الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ الْمُحْصَرِ من الْمَرَضِ مُرَادًا منها وما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ مُطْلَقُ الْكتاب كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يُرَى نَسْخُ الْكتاب بِالسُّنَّةِ وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال من كُسِرَ أو عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ من قَابِلٍ وَقَوْلُهُ حَلَّ أَيْ جَازَ له أَنْ يَحِلَّ بِغَيْرِ دَمٍ لِأَنَّهُ لم يُؤْذَنْ له بِذَلِكَ شَرْعًا وهو كَقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ من هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَمَعْنَاهُ أَيْ حَلَّ له الْإِفْطَارُ فَكَذَا هَهُنَا مَعْنَاهُ حَلَّ له أَنْ يَحِلَّ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُحْصَرًا من الْعَدُوِّ وَمِنْ خِصَالِهِ التَّحَلُّلُ لِمَعْنًى هو مَوْجُودٌ في الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ وهو الْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ وَالتَّيْسِيرِ لِمَا يَلْحَقُهُ من الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ بابقَائِهِ على الْإِحْرَامِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَالْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ وَالتَّيْسِيرِ مُتَحَقِّقَةٌ في الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ وَيَثْبُتُ مُوجَبُهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ دَفْعَ شَرِّ الْعَدُوِّ عن نَفْسِهِ بِالْقِتَالِ فَيَدْفَعُ الْإِحْصَارَ عن نَفْسِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عن نَفْسِهِ فلما جُعِلَ ذلك عُذْرًا فَلَأَنْ يُجْعَلَ هذا عُذْرًا أَوْلَى وَالله أعلم. وَسَوَاءٌ كان الْعَدُوُّ الْمَانِعُ كَافِرًا أو مُسْلِمًا لِتَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ مِنْهُمَا وهو الْمَنْعُ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ وَكَذَا ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ وهو إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ وَغَيْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفصل بين الْإِحْصَارِ من الْمُسْلِمِ وَمِنْ الْكَافِرِ وَلَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ أو هَلَكَتْ رَاحِلَتُهُ فَإِنْ كان لَا يَقْدِرُ على الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ لِأَنَّهُ مُنِعَ من الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مُحْصَرًا كما لو مَنَعَهُ الْمَرَضُ وَإِنْ كان يَقْدِرُ على الْمَشْيِ فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ له التحال [التحلل] وَيَجِبُ عليه الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ إنْ كان مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَجِبَ على الْإِنْسَانِ الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً وَيَجِبُ عليه بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه كَالْفَقِيرِ الذي لَا زَادَ له وَلَا رَاحِلَةَ شَرَعَ في الْحَجِّ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْمَشْيُ وَإِنْ كان لَا يَجِبُ عليه ابْتِدَاءً قبل الشُّرُوعِ كَذَا هذا قال أبو يُوسُفَ فَإِنْ قَدَرَ على الْمَشْيِ في الْحَالِ وَخَافَ أَنْ يَعْجِزَ جَازَ له التَّحَلُّلُ لِأَنَّ الْمَشْيَ الذي لَا يُوصِلُهُ إلَى الْمَنَاسِكِ وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ مُحْصَرًا فَيَجُوزُ له التَّحَلُّلُ كما لو لم يَقْدِرْ على الْمَشْيِ أَصْلًا وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ وَلَا زَوْجَ لها وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَمَاتَ مَحْرَمُهَا أو أَحْرَمَتْ وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا وَلَكِنْ مَعَهَا زَوْجُهَا فَمَاتَ زَوْجُهَا أنها مُحْصَرَةٌ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا من الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ وَلَهَا مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا إنها مُحْصَرَةٌ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا من حَجَّةِ التَّطَوُّعِ كما أَنَّ له أَنْ يَمْنَعَهَا عن صَوْمِ التَّطَوُّعِ فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً شَرْعًا بِمَنْعِ الزَّوْجِ فَصَارَتْ مُحْصَرَةً كَالْمَمْنُوعِ حَقِيقَةً بِالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ وَإِنْ أَحْرَمَتْ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ وَلَيْسَ لها زَوْجٌ فَلَيْسَتْ بِمُحْصَرَةٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَكَذَلِكَ إذَا كان لها مَحْرَمٌ وَلَهَا زَوْجٌ فَأَحْرَمَتْ بِإِذْنِ الزَّوْجِ إنها لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً وَتَمْضِي في إحْرَامِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ وَإِنْ أَحْرَمَتْ وَلَيْسَ لها مَحْرَمٌ فَإِنْ لم يَكُنْ لها زَوْجٌ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ وَإِنْ كان لها زَوْجٌ فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ من الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا مَحْرَمَ لها وَلَا زَوْجَ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْمَنْعُ أَقْوَى من مَنْعِ الْعِبَادِ. وَإِنْ كان لها مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ وَلَهَا اسْتِطَاعَةٌ عِنْدَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهَا فَلَيْسَتْ بِمُحْصَرَةٍ لِأَنَّهُ ليس لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا من الْفَرَائِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِنْ كان لها زَوْجٌ وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا فَمَنَعَهَا الزَّوْجُ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ على الْخُرُوجِ وَلَا يَجُوزُ لها الْخُرُوجُ بِنَفْسِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لها بِالْخُرُوجِ وَلَوْ أَذِنَ لَا يَعْمَلُ إذْنُهُ فَكَانَتْ مُحْصَرَةً وَهَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ له أَنْ يُحَلِّلَهَا لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ مُحْصَرَةً مَمْنُوعَةً عن الْخُرُوجِ وَالْمُضِيِّ بِمَنْعِ الزَّوْجِ صَارَ هذا كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَهُنَاكَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا فَكَذَا هذا وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَهُوَ مُحْصَرٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عن الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ وَإِنْ كان بِإِذْنِهِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ له ذلك لِأَنَّهُ خُلْفٌ في الْوَعْدِ وَلَا يَكُونُ الْحَاجُّ مُحْصَرًا بعدما وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَيَبْقَى مُحْرِمًا عن النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ} أَيْ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عن إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ على قَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وقد تَمَّ حَجُّهُ بِالْوُقُوفِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم: «الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَبَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ اسْمٌ لِفَائِتِ الْحَجِّ وَبَعْدَ وُجُودِ الرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ وهو الْوُقُوفُ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَوَاتُ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مُحْرِمًا عن النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ عن النِّسَاءِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنْ مُنِعَ حتى مَضَى أَيَّامُ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ ثُمَّ خلى سَبِيلُهُ يَسْقُطُ عنه الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ وَدَمٌ لِتَرْكِ الرَّمْيِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَطَوَافَ الصَّدْرِ وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عن أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَكَذَا عليه لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ عن أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عليه وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ في مَوْضِعِهَا وَلَا إحْصَارَ بعدما قَدِمَ مَكَّةَ أو الْحَرَمَ إنْ كان لَا يُمْنَعُ من الطَّوَافِ ولم يذكر في الْأَصْلِ أَنَّهُ إنْ مُنِعَ من الطَّوَافِ مَاذَا حُكْمُهُ. وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ إنْ قَدَرَ على الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ جميعا أو قَدَرَ على أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ وَإِنْ لم يَقْدِرْ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ مُحْصَرٌ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْصَرًا بعدما دخل الْحَرَمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ عَدُوٌّ غَالِبٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ كما حَالَ الْمُشْرِكُونَ بين رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ فإذا كان كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْصَرٌ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ هل على أَهْلِ مَكَّةَ إحْصَارٌ فقال لَا فقلت كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فقال كانت مَكَّةُ إذْ ذَاكَ حَرْبًا وَهِيَ الْيَوْمَ دَارُ إسْلَامٍ وَلَيْسَ فيها إحْصَارٌ وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ من التَّفْصِيلِ إنه إنْ كان يَقْدِرُ على الْوُقُوفِ أو على الطَّوَافِ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا وَإِنْ لم يَقْدِرْ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُحْصَرًا أَمَّا إذَا كان يَقْدِرُ على الْوُقُوفِ فَلِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا إذَا كان يَصِلُ إلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ إنَّمَا رُخِّصَ لِلْمُحْصَرِ لِتَعَذُّرِ الطَّوَافِ قَائِمًا مَقَامَهُ بَدَلًا عنه بِمَنْزِلَةِ فَائِتِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ وهو الطَّوَافُ فإذا قَدَرَ على الطَّوَافِ فَقَدْ قَدَرَ على الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ وَأَمَّا إذَا لم يَقْدِرْ على الْوُصُولِ إلَى أَحَدِهِمَا فَلِأَنَّهُ في حُكْمِ الْمُحْصَرِ في الْحِلِّ فَيَجُوزُ له أَنْ يَتَحَلَّلَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ. ثُمَّ الْإِحْصَارُ كما يَكُونُ عن الْحَجِّ يَكُونُ عن الْعُمْرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ لَا إحْصَارَ عن الْعُمْرَةِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِحْصَارَ لِخَوْفِ الْفَوْتِ وَالْعُمْرَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَوْتَ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ وَقْتٌ لها فَلَا يُخَافُ فَوْتُهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فإنه يَحْتَمِلُ الْفَوْتَ فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ عنه. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ} عَقِيبَ قَوْلِهِ عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَكَانَ الْمُرَادُ منه وَالله أعلم. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عن إتْمَامِهِمَا فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حُصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ وَكَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَنَحَرُوا هَدْيَهُمْ وَحَلَقُوا رؤوسهم وقضي رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ عُمْرَتَهُمْ في الْعَامِ الْقَابِلِ حتى سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَلِأَنَّ التحللل [التحلل] بِالْهَدْيِ في الْحَجِّ لِمَعْنًى هو مَوْجُودٌ في الْعُمْرَةِ وهو ما ذَكَرْنَا من التَّضَرُّرِ بِامْتِدَادِ الْإِحْرَامِ وَالله أعلم.
وَأَمَّا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فَالْإِحْصَارُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ لَكِنَّ الْأَصْلَ فيه حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا جَوَازُ التَّحَلُّلِ عن الإحرام [الإحصار] وَالثَّانِي وُجُوبُ قَضَاءِ ما أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ أَمَّا جَوَازُ التَّحَلُّلِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ التَّحَلُّلِ وفي بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ ما يَتَحَلَّلُ بِهِ وفي بَيَانِ مَكَانِهِ وفي بَيَانِ زَمَانِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ التَّحَلُّلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّحَلُّلُ هو فَسْخُ الْإِحْرَامِ وَالْخُرُوجُ منه بِالطَّرِيقِ الْمَوْضُوعِ له شَرْعًا وَأَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ} وَفِيهِ إضْمَارٌ وَمَعْنَاهُ وَالله أعلم. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عن إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا ما تَيَسَّرَ من الْهَدْيِ إذْ الْإِحْصَارُ نَفْسُهُ لَا يُوجِبُ الْهَدْيَ أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ وَيَبْقَى مُحْرِمًا كما كان إلَى أ ن يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ في مُوجِبِ الْإِحْرَامِ وهو كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} مَعْنَاهُ فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ وَإِلَّا فَكَوْنُ الْأَذَى في رَأْسِهِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ} مَعْنَاهُ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ وَإِلَّا فَنَفْسُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لَا يُوجِبُ الصَّوْمَ في عِدَّةٍ من أَيَّامٍ أُخَرَ وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَمَنْ اُضْطُرَّ غير بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عليه} مَعْنَاهُ فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عليه وَإِلَّا فَنَفْسُ الإضطرار لَا يُوجِبُ الْإِثْمَ كَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ مُنِعَ عن الْمُضِيِّ في مُوجِبِ لإحرام [الإحرام] على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعَ فَلَوْ لم يَجُزْ له التَّحَلُّلُ لَبَقِيَ مُحْرِمًا لَا يَحِلُّ له ما حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ في مُوجِبِ الْإِحْرَامِ وَفِيهِ من الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ ما لَا يَخْفَى فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ من الْإِحْرَامِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ وَسَوَاءٌ كان الْإِحْصَارُ عن الْحَجِّ أو عن الْعُمْرَةِ أو عنهما عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ ما يَتَحَلَّلُ بِهِ فَالْمُحْصَرُ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ وَنَوْعٌ يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ الْهَدْيِ أَمَّا الذي لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ فَكُلُّ من مُنِعَ من الْمُضِيِّ في مُوجِبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً أو مُنِعَ منه شَرْعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ على ما ذَكَرْنَا فَهَذَا لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ وهو أَنْ يَبْعَثَ بِالْهَدْيِ أو بِثَمَنِهِ لِيَشْتَرِيَ بِهِ هَدْيًا فَيُذْبَحَ عنه وما لم يُذْبَحْ لَا يَحِلُّ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كان شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ إلا حلال بِغَيْرِ ذَبْحٍ عِنْدَ الْإِحْصَارِ أو لم يَشْتَرِطْ. وقال بَعْضُ الناس الْمُحْصَرُ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ إلَّا إذَا كان معه هَدْيٌ فَيَذْبَحُهُ وَيَحِلُّ وَقِيلَ إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان لم يَشْتَرِطْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ من غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ وَإِنْ كان شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ من غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ احْتَجَّ من قال بِالتَّحَلُّلِ من غَيْرِ هَدْيٍ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عن احصاره بِغَيْرِ هَدْيٍ لِأَنَّ الْهَدْيَ الذي نَحَرَهُ كان هَدْيًا سَاقَهُ لِعُمْرَتِهِ لَا لِإِحْصَارِهِ فَنَحَرَ هَدْيَهُ على النِّيَّةِ الْأُولَى وَحَلَّ من إحْصَارِهِ بِغَيْرِ دَمٍ فَدَلَّ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ يُحَقِّقُ ما قُلْنَا إنَّهُ ليس في حديث صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ نَحَرَ دَمَيْنِ وَإِنَّمَا نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا وَلَوْ كان الْمُحْصَرُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمٍ لَنَحَرَ دَمَيْنِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} مَعْنَاهُ حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحَ نهى عز وجل عن حَلْقِ الرَّأْسِ قبل ذَبْحِ الْهَدْيِ في مَحِلِّهِ وهو الْحَرَمُ من غَيْرِ فصل بين ما إذَا كان معه هَدْيٌ وَقْتَ الْإِحْصَارِ أَمْ لَا شَرَطَ الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ أو لم يَشْرِطْ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِمَا فيه من فَسْخِ الْإِحْرَامِ وَالْخُرُوجِ منه قبل أَوَانِهِ فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالتَّحَلُّلِ بِالْهَدْيِ فَلَا يَثْبُتُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فيه ما يَدُلُّ على أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عن إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ إذْ لَا يُتَوَهَّمُ على النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ حَلَّ من إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُحْصَرَ أَنْ لَا يَحِلَّ حتى يَنْحَرَ هَدْيَهُ بِنَصِّ الْكتاب الْعَزِيزِ وَلَكِنَّ وَجْهَ ذلك وَالله أعلم. وهو مَعْنَى الْمَرْوِيِّ في حديث صُلْحِ الحيبية [الحديبية] أَنَّهُ نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا إن الْهَدْيَ الذي كان سَاقَهُ النبي صلى الله عليه وسلم كان هَدْيَ مُتْعَةٍ أو قِرَانٍ فلما مُنِعَ عن الْبَيْتِ سَقَطَ عنه دَمُ الْقِرَانِ فَجَازَ له أَنْ يَجْعَلَهُ من دَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قُلْتُمْ أن النبي صلى الله عليه وسلم صَرَفَ الْهَدْيَ عن سَبِيلِهِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ من بَاعَ هَدِيَّةَ التَّطَوُّعِ فَهُوَ مُسِيءٌ لِمَا أَنَّهُ صَرَفَهُ عن سَبِيلِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بين الْفصليْنِ لِأَنَّ الذي بَاعَهُ صَرَفَهُ عن سَبِيلِ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى رَأْسًا فَأَمَّا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَصْرِفْ الْهَدْيَ عن سَبِيلِ التَّقَرُّبِ أَصْلًا وَرَأْسًا بَلْ صَرَفَهُ إلَى ما هو أَفْضَلُ وهو الْوَاجِبُ وهو دَمُ الْإِحْصَارِ وَمِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْهَدْيَ لِإِحْصَارِهِ ما رُوِيَ أَنَّهُ لم يَحْلِقْ حتى نَحَرَ هَدْيَهُ وقال أَيُّهَا الناس إنحروا وَحِلُّوا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ. وإذا لم يَتَحَلَّلْ إلَّا بِالْهَدْيِ وَأَرَادَ التَّحَلُّلَ يَجِبُ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ أو ثَمَنَهُ ليشتري بِهِ الْهَدْيُ فَيُذْبَحُ عنه وَيَجِبُ أَنْ يُوَاعِدَهُمْ يَوْمًا مَعْلُومًا يُذْبَحُ فيه فَيَحِلُّ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَا يَحِلُّ قَبْلَهُ بَلْ يَحْرُمُ عليه كما يَحْرُمُ على الْمُحْرِمِ غَيْرِ الْمُحْصَرِ فَلَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا يَفْعَلُ شيئا من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حتى يَكُونَ الْيَوْمُ الذي وَاعَدَهُمْ فيه وَيَعْلَمُ أَنَّ هَدْيَهُ قد ذُبِحَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} حتى لو فَعَلَ شيئا من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قبل ذَبْحِ الهدى يَجِبُ عليه ما يَجِبُ على الْمُحْرِمِ إذَا لم يَكُنْ مُحْصَرًا. وَسَنَذْكُرُ ذلك إن شاء الله تعالى. في مَوْضِعِهِ حتى لو حَلَقَ قبل الذَّبْحِ تَجِبُ عليه الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أو لِعُذْرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ} أَيْ فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ} أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ قال في نَزَلَتْ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ على وَجْهِي فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ فَقُلْت نعم يا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم إحلق وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ من حِنْطَةٍ أو صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أو اُنْسُكْ نَسِيكَةً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَالنُّسُكُ جَمْعُ نَسِيكَةٍ وَالنَّسِيكَةُ الذَّبِيحَةُ وَالْمُرَادُ منه الشَّاةُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ على أَنَّ الشَّاةَ مُجْزِئَةٌ في الْفِدْيَةِ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِكَعْبِ بن عُجْرَةَ اُنْسُكْ شَاةً وإذا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عليه إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِالنَّصِّ فَيَجِبُ عليه إذَا حَلَقَ لَا لِأَذًى بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّ الْعُذْرَ سَبَبُ تَخْفِيفِ الْحُكْمِ في الْجُمْلَةِ فلما وَجَبَ في حَالِ الضَّرُورَةِ فَفِي حَالِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى وَلَا يجزىء دَمُ الْفِدْيَةِ إلَّا في الْحَرَمِ كَدَمِ الْإِحْصَارِ وَدَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ فَإِنَّهُمَا يُجْزِيَانِ حَيْثُ شَاءَ وقال الشَّافِعِيُّ لَا تجزىء الصَّدَقَةُ إلَّا بِمَكَّةَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ بِمَكَّةَ فَكَذَا الصَّدَقَةُ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ} مُطْلَقًا عن الْمَكَانِ إلَّا أَنَّ النُّسُكَ قَيْدٌ بِالْمَكَانِ بِدَلِيلٍ فَمَنْ ادَّعَى تَقْيِيدَ الصَّدَقَةِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْهَدْيَ إنَّمَا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَهْلُ الْحَرَمِ فَكَذَا الصَّدَقَةُ فَنَقُولُ هذا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ لو ذَبَحَ الْهَدْيَ في غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ في الْحَرَمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَوْ ذَبَحَ في الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِهِ على غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمِ يَجُوزُ وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ أَنَّ من قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهْدِيَ ليس له أَنْ يَذْبَحَ إلَّا بِمَكَّةَ وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أو لِلَّهِ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ صَدَقَةً له أَنْ يُطْعِمَ وَيَتَصَدَّقَ حَيْثُ شَاءَ فَدَلَّ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ حَلَّ على ظَنِّ أَنَّهُ ذُبِحَ عنه ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يُذْبَحْ فَهُوَ مُحْرِمٌ كما كان لَا يَحِلُّ ما لم يُذْبَحْ عنه لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِلِّ وهو ذَبْحُ الْهَدْيِ وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ تَنَاوُلَ مَحْظُورِ إحْرَامِهِ دَمٌ لِأَنَّهُ جَنَى على إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ ثُمَّ الْهَدْيُ بَدَنَةٌ أو بَقَرَةٌ أو شَاةٌ وَأَدْنَاهُ شَاةٌ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الْهَدْيَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يهدي أَيْ يُبْعَثُ وَيُنْقَلُ وفي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يهدي إلَى حرم [الحرم] وَكُلُّ ذلك مِمَّا يهدي إلَى الْحَرَمِ. وَالْأَفْضَلُ هو الْبَدَنَةُ ثُمَّ الْبَقَرَةُ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمُتَمَتِّعِ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا أُحْصِرَ بالحديبة [بالحديبية] نَحَرَ الْبُدْنَ وكان يَخْتَارُ من الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا وَإِنْ كان قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ بِدَمٍ وَاحِدٍ بِنَاءً على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أن الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِهَدْيَيْنِ وَعِنْدَهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ في الْحَجَّةِ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيَيْنِ ولم يُبَيِّنْ أَيُّهُمَا لِلْحَجِّ وَأَيُّهُمَا لِلْعُمْرَةِ لم يَضُرَّهُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُمَا وَاحِدٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه تَعْيِينُ النِّيَّةِ كَقَضَاءِ يَوْمَيْنِ من رَمَضَانَ وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ من الْحَجِّ وَيَبْقَى في إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لم يَتَحَلَّلْ من وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ تَحَلُّلَ الْقَارِنِ من أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِتَحَلُّلِهِ من الْآخَرِ لِأَنَّ الْهَدْيَ بَدَلٌ عن الطَّوَافِ ثُمَّ لَا يَتَحَلَّلُ بِأَحَدِ الطَّوَافَيْنِ عن أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ فَكَذَا بِأَحَدِ الْهَدْيَيْنِ وَلَوْ كان أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً ثُمَّ أُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وكان الْبَيَانُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ وَإِنْ شَاءَ إلَى الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ هو الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ كما في الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَتَعَيَّنَ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا لِأَنَّ ذلك أَنْ يَأْخُذَ في عَمَلِ أَحَدِهِمَا ولم يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا تَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَقَلُّهُمَا وهو مُتَيَقِّنٌ وَلَوْ كان أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَسَمَّاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ وَأُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ إما الْحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَأَيُّهُمَا كان فإنه يَقَعُ التَّحَلُّلُ منه بِدَمٍ وَاحِدٍ وإما لُزُومُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان قد أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ وَيُحْتَمَلُ بِعُمْرَةٍ فَإِنْ كان إحْرَامُهُ بِحَجَّةٍ فَالْعُمْرَةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا وَإِنْ كان بِالْعُمْرَةِ فَالْحَجَّةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عن نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً من الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه إعَادَةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عن نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَذَا هذا وَكَذَلِكَ إنْ لم يُحْصَرْ وَوَصَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وعمر ة وَيَكُونُ عليه ما على الْقَارِنِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بين الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ على طَرِيقِ النُّسُكِ وَأَمَّا مَكَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَالْحَرَمُ عِنْدَنَا. وقال الشَّافِعِيُّ أَنْ يَذْبَحَ في الْمَوْضِعِ الذي أُحْصِرَ فيه احْتَجَّ لما [بما] رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نَحَرَ الْهَدْيَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ولم يَبْلُغْنَا أَنَّهُ نَحَرَ في الْحَرَمِ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا وَذَلِكَ في الذَّبْحِ في أَيِّ مَوْضِعٍ كان وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَلَوْ كان كُلُّ مَوْضِعٍ مَحِلًّا له لم يَكُنْ لِذِكْرِ الْمَحِلِّ فَائِدَةٌ وَلِأَنَّهُ عز وجل قال ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَيْ إلَى الْبُقْعَةِ التي فيها الْبَيْتُ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} إن الْمُرَادَ منه نَفْسُ الْبَيْتِ لِأَنَّ هُنَاكَ ذَكَرَ بِالْبَيْتِ وَهَهُنَا ذَكَرَ إلَى الْبَيْتِ وَأَمَّا ما رُوِيَ من الحديث فَقَدْ رُوِيَ في رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ نَحَرَ هَدْيَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ في الْحَرَمِ فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ فلم يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ فَحَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ فَجَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو يَعْرِضُ عليه الصُّلْحَ وَأَنْ يَسُوقَ الْبُدْنَ وَيَنْحَرَ حَيْثُ شَاءَ فَصَالَحَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بُدْنَهُ في الْحِلِّ مع إمْكَانِ النَّحْرِ في الْحَرَمِ وهو بِقُرْبِ الْحَرَمِ بَلْ هو فيه وَرُوِيَ عن مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ قَالَا نَزَلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ في الْحِلِّ وكان يُصَلِّي في الْحَرَمِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ كان قَادِرًا على أَنْ يَنْحَرَ بُدْنَهُ في الْحَرَمِ حَيْثُ كان يُصَلِّي في الْحَرَمِ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتْرُكَ نَحْرَ الْبُدْنِ في الْحَرَمِ وَلَهُ سَبِيلُ النَّحْرِ في الْحَرَمِ وَلِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ مَكَانٌ يَجْمَعُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ جميعا فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ في الْحِلِّ مع كَوْنِهِ قَادِرًا على النَّحْرِ في الْحَرَمِ وَلَوْ حَلَّ من إحْرَامِهِ على ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عنه في الْحَرَمِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا في غَيْرِ الْحَرَمِ فَهُوَ على إحْرَامِهِ وَلَا يَحِلُّ منه إلَّا بِذَبْحِ الْهَدْيِ في الْحَرَمِ لِفَقْدِ شَرْطِ التَّحَلُّلِ وهو الذَّبْحُ في الْحَرَمِ فَبَقِيَ مُحْرِمًا كما كان وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ في تَنَاوُلِهِ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ دَمٌ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ لو بَعَثَ الْهَدْيَ وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا عنه في الْحَرَمِ في يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ حَلَّ من إحْرَامِهِ على ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عنه فيه ثُمَّ تَبَيَّنَ إنهم لم يَذْبَحُوا فإنه يَكُونُ مُحْرِمًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ بَعَثَ هَدْيَيْنِ وهو مُفْرِدٌ فإنه يَحِلُّ من إحْرَامِهِ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الأخر تَطَوُّعًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِلِّ عِنْدَ وُجُودِ ذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَلَوْ كان قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِذَبْحِهِمَا وَلَا يَحِلُّ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِلِّ في حَقِّهِ الزَّمَانُ فما لم يوجد [يوجدا] إلا يَحِلُّ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فلم يَجِدْ هَدْيًا يَبْعَثُ وَلَا ثَمَنَهُ هل يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَيَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا عنه قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ الصَّوْمُ بَدَلًا عن هَدْيِ الْمُحْصَرِ وهو ظَاهِرُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَيُقِيمُ حَرَامًا حتى يُذْبَحَ الْهَدْيُ عنه في الْحَرَمِ أو يَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ فَيَحِلُّ من إحْرَامِهِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وهو الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَحْلِقُ أو يُقَصِّرُ كما يَفْعَلُهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وقال عَطَاءُ بن أبي رَبَاحٍ في الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ الْهَدْيَ قَوَّمَ الْهَدْيَ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ على الْمَسَاكِينِ فَإِنْ لم يَكُنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا وهو مَرْوِيٌّ عن أبي يُوسُفَ. وقال الشَّافِعِيُّ في قَوْلِ أن الْهَدْيَ لِلْإِحْصَارِ بَدَلًا وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ في مَاهِيَّةِ الْبَدَلِ فقال في قَوْلِ الْبَدَلُ هو الصَّوْمُ مِثْلَ صَوْمِ الْمُتْعَةِ وفي قَوْلِ الْبَدَلُ هو الْإِطْعَامُ وَهَلْ يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ له فيه قَوْلَانِ وَجْهُ قَوْلِ من قال إنَّ له بَدَلًا أَنَّ هذا دَمٌ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ له بَدَلٌ كَدَمِ الْمُتْعَةِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أَيْ حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحُ نهى اللَّهُ عن حَلْقِ الرَّأْسِ مَمْدُودًا إلَى غَايَةِ ذَبْحِ الْهَدْيِ وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قبل وُجُودِ الْغَايَةِ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يتحصل [يتحلل] ما لم يَذْبَحْ الْهَدْيَ سَوَاءٌ صَامَ أو أَطْعَمَ أولا وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ قبل إتْمَامِ موجب [مواجب] الْإِحْرَامِ عُرِفَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يحوز [يجوز] إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ بِالرَّأْيِ وَأَمَّا الْحَلْقُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّحَلُّلِ وَيَحِلُّ الْمُحْصَرُ بِالذَّبْحِ بِدُونِ الْحَلْقِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِنْ حَلَقَ فَحَسَنٌ وقال أبو يُوسُفَ أَرَى عليه أَنْ يَحْلِقَ فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عليه وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال هو وَاجِبٌ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ وقال إنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا إذَا أُحْصِرَ في الْحِلِّ لِأَنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ فَأَمَّا إذَا أُحْصِرَ في الْحَرَمِ يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا احْتَجَّ أبو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ. فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ وَاجِبٌ وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ} مَعْنَاهُ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فإذبحوا ما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ جَعَلَ ذَبْحَ الْهَدْيِ في حَقِّ الْمُحْصَرِ إذَا أَرَادَ الْحِلَّ كُلٌّ مُوجِبٌ الْإِحْصَارَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَلْقَ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضَ الْمُوجِبِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ لِلتَّحَلُّلِ عن أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْمُحْصَرُ لَا يَأْتِي بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا حَلْقَ عليه وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ لَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ بَعْضُهَا في الْحِلِّ وَبَعْضُهَا في الْحَرَمِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُحْصِرَ في الْحَرَمِ فَأُمِرَ بِالْحَلْقِ وَأَمَّا على جَوَابِ الْمَذْكُورِ في الْأَصْلِ فَهُوَ مَحْمُولٌ على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْباب وَأَمَّا زَمَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَمُطْلَقُ الْوَقْتِ لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ سَوَاءٌ كان الْإِحْصَارُ عن الْحَجِّ أو عن الْعُمْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ. وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنَّ الْمُحْصَرَ عن الْحَجِّ لَا يُذْبَحُ عنه إلَّا في أَيَّامِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ في غَيْرِهَا وَلَا خِلَافَ في الْمُحْصَرِ عن الْعُمْرَةِ إنه يُذْبَحُ عنه في أَيِّ وَقْتٍ كان وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن هذا الدَّمَ سَبَبٌ لِلتَّحَلُّلِ من إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَخْتَصُّ بِزَمَانِ التَّحَلُّلِ كَالْحَلْقِ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فإن التَّحَلُّلَ من إحْرَامِهَا بِالْحَلْقِ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَكَذَا بِالْهَدْيِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَلُّلَ من الْمُحْصَرِ تَحَلُّلٌ قبل أَوَانِ التَّحَلُّلِ يُبَاحُ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ بِبَقَائِهِ مُحْرِمًا رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا فَلَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالطَّوَافِ الذي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتُ الْحَجِّ إذْ الْمُحْصَرُ فَائِتُ الْحَجِّ وَالله أعلم. وَأَمَّا حُكْمُ التَّحَلُّلِ فَصَيْرُورَتُهُ حَلَالًا يُبَاحُ له تَنَاوُلُ جَمِيعِ ما حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ لِارْتِفَاعِ الْحَاظِرِ فَيَعُودُ حَلَالًا كما كان قبل الْإِحْرَامِ وَأَمَّا الذي يَتَحَلَّلُ بِهِ بِغَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَكُلُّ مُحْصَرٍ مُنِعَ عن الْمُضِيِّ في مُوجِبِ الْإِحْرَامِ شَرْعًا لَحِقَ الْعَبْدَ كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعَيْنِ شَرْعًا لِحَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى بِأَنْ أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا أو أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَلِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُمَا في الْحَالِ من غَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في هذا في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في جَوَازِ هذا النَّوْعِ من التَّحَلُّلِ وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَتَحَلَّلُ بِهِ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْمَرْأَةِ حَقُّ الزَّوْجِ وَمِلْكُهُ عليها فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك مع قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَلُّلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَوْقِيفِهِ على ذَبْحِ الْهَدْيِ في الْحَرَمِ لِمَا فيه من إبْطَالِ حَقِّهِ لِلْحَالِ فَكَانَ له أَنْ يُحَلِّلَهَا لِلْحَالِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْعَثَ الْهَدْيَ أو ثَمَنَهُ إلَى الْحَرَمِ لِيُذْبَحَ عنها لِأَنَّهَا تَحَلَّلَتْ بِغَيْرِ طَوَافٍ وَعَلَيْهَا حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كما على الرَّجُلِ الْمُحْصَرِ إذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ بِخِلَافِ ما إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا زَوْجَ لها وَلَا مَحْرَمَ أو كان لها زَوْجٌ أو مَحْرَمٌ فَمَاتَ إنها لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ فَكَانَ تَحَلُّلُهَا جَائِزًا لاحقا مُسْتَحَقًّا عليها لِأَحَدٍ أَلَا تَرَى أن لها أَنْ تَبْقَى على إحْرَامِهَا ما لم تَجِدْ مَحْرَمًا أو زَوْجًا فَكَانَ تَحَلُّلُهَا بِمَا هو الْمَوْضُوعُ لِلتَّحَلُّلِ في الْأَصْلِ وهو ذَبْحُ الْهَدْيِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَكَذَا الْعَبْدُ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَيَحْتَاجُ إلَى تَصْرِيفِهِ في وُجُوهِ مَصَالِحِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك مع قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَلُّلِ في الْحَالِ لِمَا فيه من التَّوْقِيفِ على ذَبْحِ الْهَدْيِ في الْحَرَمِ من تَعْطِيلِ مَصَالِحِهِ فَيُحَلِّلُهُ الْمَوْلَى لِلْحَالِ وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ وَقَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ لِأَنَّ الْحَجَّ وَجَبَ عليه بِالشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا أَهْلًا إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ عليه الْمُضِيُّ لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا عَتَقَ زَالَ حَقُّهُ وَتَجِبُ عليه الْعُمْرَةُ لِفَوَاتِ الْحَجِّ في عَامِهِ ذلك وَلَوْ كان أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ يُكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَمَّا وَعَدَ وَخُلْفٌ في الْوَعْدِ فَيُكْرَهُ وَلَوْ حَلَّلَهُ جَازَ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى. وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ في الْحَجِّ ليس له أَنْ يُحَلِّلَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ له فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ وهو الْمِلْكُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا قُلْنَا وإذا حَلَّلَهُ لَا هَدْيَ عليه لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ عليه لِعَبْدِهِ شَيْءٌ وَلَوْ أُحْصِرَ الْعَبْدُ بعدما أَحْرَمَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى إنْفَاذُ هَدْيٍ لِأَنَّهُ لو لَزِمَهُ لَلَزِمَهُ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَلَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ على مَوْلَاهُ حَقٌّ فَإِنْ أَعْتَقَهُ وَجَبَ عليه أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ لِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ صَارَ مِمَّنْ يُثْبَتُ له عليه حَقٌّ فَصَارَ كَالْحُرِّ إذَا حَجَّ عن غَيْرِهِ فَأُحْصِرَ أَنَّهُ يَجِبُ على الْمَحْجُوجِ عنه أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ على الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ عنه هَدْيًا في الْحَرَمِ فَيَحِلَّ لِأَنَّ هذا الدَّمَ وَجَبَ لِبَلِيَّةٍ اُبْتُلِيَ بها الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ وَالنَّفَقَةُ على الْمَوْلَى وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ وَلِهَذَا كان دَمُ الْإِحْصَارِ في مَالِ الْمَيِّتِ إذَا أُحْصِرَ الْحَاجُّ عن الْمَيِّتِ لَا عليه كَذَا هذا وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ أو الْأَمَةُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ بَاعَهُمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَهُمَا وَيُحَلِّلَهُمَا في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وفي قَوْلِ زُفَرَ ليس له ذلك وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا بِالْعَيْبِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا وَعِنْدَ زُفَرَ ليس له ذلك كَذَا حَكَى الْقَاضِي الْخِلَافَ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الْخِلَافَ بين أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الذي انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي هو ما كان لِلْبَائِعِ ولم يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهُ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ كَذَا الْمُشْتَرِي وَلَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لم يَقَعْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَأَنَّهُ أَحْرَمَ في مِلْكِهِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ كان له أَنْ يُحَلِّلَهُ كَذَا هذا. وقال مُحَمَّدٌ إذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ في الْحَجِّ ثُمَّ بَاعَهُ لَا أَكْرَهُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في حَقِّ الْبَائِعِ لِمَا فيه من خَلْفِ الْوَعْدِ ولم يُوجَدْ ذلك من الْمُشْتَرِي وروي ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في أَمَةٍ لها زَوْجٌ أَذِنَ لها مَوْلَاهَا في الْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ ليس لِزَوْجِهَا أَنْ يُحَلِّلَهَا لِأَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا ثَبَتَ لِلزَّوْجِ بِمَنْعِهَا من السَّفَرِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ منها وَمَنْعُ الْأَمَةِ من السَّفَرِ إلَى مَوْلَاهَا دُونَ الزَّوْجِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لو سَافَرَ بها لم يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا فَكَذَا إذَا أَذِنَ لها في السَّفَرِ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَتَحَلَّلُ بِهِ فَالتَّحَلُّلُ عن هذا النَّوْعِ من الْإِحْصَارِ يَقَعُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَدْنَى مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ من قَصِّ ظُفْرِهِمَا أو تَطْيِيبِهِمَا أو بِفِعْلِهِمَا ذلك بِأَمْرِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أو بِامْتِشَاطِ الزَّوْجَةِ رَأْسَهَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ أو تَقْبِيلِهَا أو مُعَانَقَتِهَا فَتَحِلُّ بِذَلِكَ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها حين حَاضَتْ في الْعُمْرَةِ امْتَشِطِي وَارْفُضِي عَنْك الْعُمْرَةَ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ صَارَ حَقًّا عَلَيْهِمَا لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فَجَازَ بِمُبَاشَرَتِهِمَا أَدْنَى ما يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ وَلَا يَكُونُ التَّحَلُّلُ بِقَوْلِهِ حَلَلْتُكِ لِأَنَّ هذا تَحْلِيلٌ من الْإِحْرَامِ فَلَا يَقَعُ بِالْقَوْلِ كَالرَّجُلِ الْحُرِّ إذَا أُحْصِرَ فقال حَلَلْت نَفْسِي. وَأَمَّا وُجُوبُ قَضَاءِ ما أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ لَا غَيْرُ وَإِمَّا إن كان أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ وَإِمَّا إن كان أَحْرَمَ بِهِمَا بِأَنْ كان قَارِنًا فَإِنْ كان أَحْرَمَ بِالْحِجَّةِ لَا غَيْرُ فَإِنْ بَقِيَ وَقْتُ الْحَجِّ عِنْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ وَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ من عَامِهِ ذلك أَحْرَمَ وَحَجَّ وَلَيْسَ عليه نِيَّةُ الْقَضَاءِ وَلَا عُمْرَةَ عليه كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وَذَكَرَ ابن أبي مَالِكٍ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَلَا تَسْقُطُ عنه تِلْكَ الْحَجَّةُ إلَّا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ عليه قَضَاءَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ في الْوَجْهَيْنِ جميعا وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ فِيهِمَا وهو قَوْلُ زُفَرَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَعَلَى هذا التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ ما إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا فَحَلَّلَهَا ثُمَّ أَذِنَ لها بِالْإِحْرَامِ فَأَحْرَمَتْ في عَامِهَا ذلك أو تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ فَأَحْرَمَتْ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ ما تَحُجُّهُ في هذا الْعَامِ دخل في حَدِّ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يؤدي بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ لِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ بِالتَّحَلُّلِ فَيَكُونُ قَضَاءً فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كما لو تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ وَلَنَا أَنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِلْفَائِتِ عن الْوَقْتِ وَوَقْتُ الْحَجِّ بَاقٍ فَكَانَ فعل الْحَجُّ فيه أَدَاءً لَا قَضَاءً فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَلَا تَلْزَمُهُ الْعُمْرَةُ لِأَنَّ لُزُومَهَا لِفَوَاتِ الْحَجِّ في عَامِهِ ذلك ولم يَفُتْ. وقال الشَّافِعِيُّ عليه قَضَاءُ حَجَّةٍ لَا غَيْرُ وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قال حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ وهو المعنى له في الْمَسْأَلَةِ أن الْقَضَاءَ يَكُونُ مِثْلَ الْفَائِتِ وَالْفَائِتُ هو الْحَجَّةُ لَا غَيْرُ فَمِثْلُهَا الْحَجَّةُ لَا غَيْرُ وَرَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من كُسِرَ أو عَرِجَ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ من قَابِلٍ ولم يذكر الْعُمْرَةَ وَلَوْ كانت وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا وَلَنَا الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ أَمَّا الْأَثَرُ فما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا في الْمُحْصَرِ بِحَجَّةٍ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ الْحَجَّ قد وَجَبَ عليه بِالشُّرُوعِ ولم يَمْضِ فيه بَلْ فَاتَهُ في عَامِهِ ذلك وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَإِنْ قِيلَ فَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ لَا بِالدَّمِ وَالْمُحْصَرُ قد حَلَّ بِالدَّمِ وَقَامَ الدَّمُ مَقَامَ الطَّوَافِ من الذي يَفُوتُهُ الْحَجُّ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ طَوَافٌ آخَرُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّمَ الذي حَلَّ بِهِ الْمُحْصَرُ ما وَجَبَ بَدَلًا عن الطَّوَافِ لِيُقَالَ أنه قام مَقَامَ الطَّوَافِ فَلَا يَجِبُ عليه طَوَافٌ آخَرُ وَإِنَّمَا وَجَبَ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ لِأَنَّ الْمُحْصَرَ لو لم يَبْعَثْ هَدْيًا لَبَقِيَ على إحْرَامِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَفِيهِ حَرَجٌ وَضَرَرٌ فَجَعَلَ له أَنْ يَتَعَجَّلَ الْخُرُوجَ من إحْرَامِهِ وَيُؤَخِّرَ الطَّوَافَ الذي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُهَرِيقهُ فَحَلَّ بِالدَّمِ ولم يَبْطُلْ الطَّوَافُ وإذا لم يُبْطِلْ الدَّمُ عنه الطَّوَافَ ولم يُجْعَلْ بَدَلًا عنه فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ فَيَكُونَ ذلك عُمْرَةً وَالدَّلِيلُ على أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ ما وَجَبَ بَدَلًا عن الطَّوَافِ الذي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتٌ الحج [لحج] أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لو أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ الطَّوَافَ الذي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُرِيقُهُ بَدَلًا عنه ليس له ذلك بِالْإِجْمَاعِ فَثَبَتَ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ بِهِ لَا بَدَلًا عن الطَّوَافِ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما إنْ ثَبَتَ فَهُوَ تَمَسُّكٌ بِالْمَسْكُوتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ بِالْعُمْرَةِ وَهَذَا لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ وَلَا يَقْتَضِي أَيْضًا فَكَانَ مَسْكُوتًا عنه فَيَقِفُ على قِيَامِ الدَّلِيلِ وقد قام دَلِيلُ الْوُجُوبِ وهو ما ذَكَرْنَا وهو كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} أَنَّهُ لَا يَنْفِي قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هذا وَيُحْمَلُ على فَائِتِ الْحَجِّ وهو الذي لم يُدْرِكْ الْوُقُوفَ بعرفة بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ من قَابِلٍ وَلَا عُمْرَةَ عليه وَإِنْ كان إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ قَضَاهَا لِوُجُوبِهَا بِالشُّرُوعِ في أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ لِأَنَّهُ ليس لها وَقْتٌ مُعَيَّنٌ وَإِنْ كان أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ إنْ كان قَارِنًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَتَيْنِ أَمَّا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَلِوُجُوبِهِمَا بِالشُّرُوعِ وَأَمَّا عُمْرَةٌ أُخْرَى فَلِفَوَاتِ الْحَجِّ في عَامِهِ ذلك وَهَذَا على أَصْلِنَا فَأَمَّا على أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فَلَيْسَ عليه إلَّا حَجَّةٌ بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ في الْحَجَّةِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ وَالْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ إذَا أحضر [أحصر] لَا يَجِبُ عليه إلَّا قَضَاءُ حَجَّةٍ عِنْدَهُ فَكَذَا الْقَارِنُ وَالله تعالى أعلم. وَأَمَّا حُكْمُ زَوَالِ الْإِحْصَارِ فَالْإِحْصَارُ إذَا زَالَ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن زَالَ قبل بَعْثِ الْهَدْيِ أو بعدما بَعَثَ فَإِنْ زَالَ قبل أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ مَضَى على مُوجِبِ إحْرَامِهِ وَإِنْ كان قد بَعَثَ الْهَدْيَ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إن كان يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ أو لَا يَقْدِرُ على إدْرَاكِهِمَا جميعا أو يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ دُونَ الْحَجِّ أو يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْحَجِّ دُونَ الْهَدْيِ فَإِنْ كان يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ لم يَجُزْ له التَّحَلُّلُ وَيَجِبُ عليه الْمُضِيُّ فإن إبَاحَةَ التَّحَلُّلِ لِعُذْرِ الْإِحْصَارِ وَالْعُذْرُ قد زَالَ وَإِنْ كان لَا يَقْدِرُ على إدْرَاكِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لم يَلْزَمْهُ الْمُضِيُّ وَجَازَ له التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في الْمُضِيِّ فَتَقَرَّرَ الْإِحْصَارُ فَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ وَإِنْ كان يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَلَا يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ أَيْضًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في إدْرَاكِ الْهَدْيِ دُونَ إدْرَاكِ الْحَجِّ إذْ الذَّهَابُ لِأَجْلِ إدْرَاكِ الْحَجِّ فإذا كان لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ فَلَا فَائِدَةَ في الذَّهَابِ فَكَانَتْ قُدْرَتُهُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كان يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْحَجِّ وَلَا يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ قِيلَ إنَّ هذا الْوَجْهَ الرَّابِعَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ على مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ بَلْ يَجُوزُ قَبْلَهَا فَيُتَصَوَّرُ إدْرَاكُ الْحَجِّ دُونَ إدْرَاكِ الْهَدْيِ فَأَمَّا على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ هذا الْوَجْهُ إلَّا في الْمُحْصَرِ عن الْعُمْرَةِ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ فإذا أَدْرَكَ الْحَجَّ فَقَدْ أَدْرَكَ الْهَدْيَ ضَرُورَةً وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمَا في الْمُحْصَرِ عن الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ عنها لَا يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ وإذا عُرِفَ هذا فَقِيَاسُ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ في هذا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَلَا يَجُوزُ له التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ إذَا قَدَرَ على إدْرَاكِ الْحَجِّ لم يَعْجِزْ عن الْمُضِيِّ في الْحَجِّ فلم يُوجَدْ عُذْرُ الْإِحْصَارِ فَلَا يَجُوزُ له التَّحَلُّلُ وَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَيَجُوزُ له التَّحَلُّلُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان لَا يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ صَارَ كَأَنَّ الْإِحْصَارَ زَالَ عنه بِالذَّبْحِ فَيَحِلُّ بِالذَّبْحِ عنه وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قد مَضَى في سَبِيلِهِ بِدَلِيلِ إنه لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالذَّبْحِ على من بَعَثَ على يَدِهِ بَدَنَةً فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدَرَ على الذَّهَابِ بَعْدَ ما ذُبِحَ عنه وَالله أعلم.
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ وما لَا يَحْظُرُهُ وَبَيَانُ ما يَجِبُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ وَنَوْعٌ يُوجِبُ فَسَادَهُ أَمَّا الذي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى اللِّبَاسِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ من إزَالَةِ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَوَابِعِ الْجِمَاعِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحْرِمُ لَا يَلْبَسُ الْمَخِيطَ جُمْلَةً وَلَا قَمِيصًا وَلَا قُبَاءَ وَلَا جُبَّةً وَلَا سَرَاوِيلَ وَلَا عِمَامَةً وَلَا قَلَنْسُوَةً وَلَا يَلْبَسُ خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسُهُمَا. وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ من الثِّيَابِ فقال لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ من الْكَعْبَيْنِ وَلَا يَلْبَسْ من الثِّيَابِ شيئا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ فَإِنْ قِيلَ في هذا الحديث ضَرْبُ إشْكَالٍ لِأَنَّ فيه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فقال لَا يَلْبَسُ كَذَا وَكَذَا من الْمَخِيطِ فَسُئِلَ عن شَيْءٍ فَعَدَلَ عن مَحِلِّ السُّؤَالِ وَأَجَابَ عن شَيْءٍ آخَرَ لم يسئل [يسأل] عنه وَهَذَا مَحِيدٌ عن الْجَوَابِ أو يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ في مَذْكُورٍ دَلِيلًا على أَنَّ الْحُكْمَ في غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ وَهَذَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ. فَالْجَوَابُ عنه من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ وَأَضْمَرَ (لَا) في مَحِلِّ السُّؤَالِ لِأَنَّ لَا تَارَةً تُزَادُ في الْكَلَامِ وَتَارَةً تُحْذَفُ عنه قال اللَّهُ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أَيْ لَا تَضِلُّوا فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فقال لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ كَذَا وَكَذَا فَكَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ وَالثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَلِمَ غَرَضَ السَّائِلِ وَمُرَادَهُ أَنَّهُ طَلَبَ منه بَيَانَ ما لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ بَعْدَ إحْرَامِهِ إمَّا بِقَرِينَةِ حَالِهِ أو بِدَلِيلٍ آخَرَ أو بِالْوَحْيِ فَأَجَابَ عَمَّا في ضَمِيرِهِ من غَرَضِهِ وَمَقْصُودِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى خَبَرًا عن إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ من الثَّمَرَاتِ من آمَنَ منهم بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. فَأَجَابَهُ اللَّهُ عز وجل بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} سَأَلَ إبْرَاهِيمُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَبَّهُ عز وجل أَنْ يَرْزُقَ من آمَنَ من أَهْلِ مَكَّةَ من الثَّمَرَاتِ فَأَجَابَهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَرْزُقُ الْكَافِرَ أَيْضًا لَمَّا عَلِمَ أَنَّ مُرَادَ إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من سُؤَالِهِ أَنْ يَرْزُقَ ذلك الْمُؤْمِنَ منهم دُونَ الْكَافِرِ فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا كان في ضَمِيرِهِ كَذَا هذا وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْمَخِيطَ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ بَعْدَ تَقَدُّمِ السُّؤَالِ عَمَّا يَلْبَسُهُ دَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ في غَيْرِ الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ وَالتَّنْصِيصُ على حُكْمٍ في مَذْكُورٍ إنَّمَا لَا يَدُلُّ على تَخْصِيصِ ذلك الْحُكْمِ بِهِ بِشَرَائِطَ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ فيه حَيْدٌ عن الْجَوَابِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عليه الْحَيْدُ فَأَمَّا إذَا كان فإنه يَدُلُّ عليه صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النبي صلى الله عليه وسلم عن الْحَيْدِ عن الْجَوَابِ عن السُّؤَالِ وَالثَّانِي من الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ حُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهَهُنَا لَا يُحْتَمَلُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ أَصْلًا وَفِيهِ تَعْرِيضُهُ لِلْهَلَاكِ بِالْحَرِّ أو الْبَرْدِ وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ من ذلك فَكَانَ الْمَنْعُ من أَحَدِ النَّوْعَيْنِ في مِثْلِهِ إطْلَاقًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فيه} أن جَعْلَ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ يَدُلُّ على جَعْلِ النَّهَارِ لِلْكَسْبِ وَطَلَبِ الْمَعَاشِ إذْ لَا بُدَّ من الْقُوتِ لِلْبَقَاءِ وكان جَعْلُ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ تَعْيِينًا لِلنَّهَارِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ ذلك في غَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَأَمَّا في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَدُلُّ عليه لِمَا قد صَحَّ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا ان الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نهى عن ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَالتَّنْصِيصُ هَهُنَا في مَحِلِّ النَّهْيِ فَكَانَ ذلك دَلِيلًا على أَنَّ الْحُكْمَ في غَيْرِ الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ. وَلِأَنَّ لُبْسَ الْمَخِيطِ من باب الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالتَّرَفُّهِ في اللُّبْسِ وَحَالُ الْمُحْرِمِ يُنَافِيهِ وَلِأَنَّ الْحَاجَّ في حَالِ إحْرَامِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِسُوءِ حَالِهِ إلَى مَوْلَاهُ يَسْتَعْطِفُ نَظَرَهُ وَمَرْحَمَتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَسْخُوطِ عليه في الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ سَيِّدِهِ وَلِهَذَا قال النبي صلى الله عليه وسلم الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ من لُبْسِ الْمَخِيطِ إذَا لَبِسَهُ على الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لَا على أوجه [الوجه] الْمُعْتَادِ فَلَا يُمْنَعُ منه بِأَنْ اتَّشَحَ بِالْقَمِيصِ أو اتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ لِأَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالتَّرَفُّهِ في اللُّبْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ على هذا الْوَجْهِ في مَعْنَى الِارْتِدَاءِ والإتزار لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ في حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ كما يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ في حِفْظِ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عنه وَلَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ في الْقَبَاءِ ولم يُدْخِلْ يَدَيْهِ في كُمَّيْهِ جَازَ له ذلك في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِ إن هذا لُبْسُ الْمَخِيطِ إذْ اللُّبْسُ هو التَّغْطِيَةُ وَفِيهِ تَغْطِيَةُ أَعْضَاءٍ كَثِيرَةٍ بِالْمَخِيطِ من الْمَنْكِبَيْنِ وَالظَّهْرِ وَغَيْرِهَا فَيُمْنَعُ من ذلك كَإِدْخَالِ الْيَدَيْنِ في الْكُمَّيْنِ وَلَنَا أَنَّ الْمَمْنُوعَ عنه هو اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ وَذَلِكَ في الْقَبَاءِ الْإِلْقَاءُ على الْمَنْكِبَيْنِ مع إدْخَالِ الْيَدَيْنِ في الْكُمَّيْنِ وَلِأَنَّ الإرتفاق بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالتَّرَفُّهَ في اللُّبْسِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ ولم يُوجَدْ فَلَا يُمْنَعُ منه وَلِأَنَّ إلْقَاءَ الْقَبَاءِ على الْمَنْكِبَيْنِ دُونَ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ في الْكُمَّيْنِ يُشْبِهُ الِارْتِدَاءَ وَالِاتِّزَارَ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِهِ عليه لِئَلَّا يَسْقُطَ إلَى تَكَلُّفٍ كما يَحْتَاجُ إلَى ذلك في الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ وهو لم يُمْنَعْ من ذلك كَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا أَدْخَلَ يَدَيْهِ في كُمَّيْهِ لِأَنَّ ذلك لُبْسٌ مُعْتَادٌ يَحْصُلُ بِهِ الِارْتِفَاقُ بِهِ وَالتَّرَفُّهُ في اللُّبْسِ وَيَقَعُ بِهِ الْأَمْنُ عن السُّقُوطِ وَلَوْ أَلْقَاهُ على مَنْكِبَيْهِ وَزَرَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ فَقَدْ تَرَفَّهَ في لُبْسِ الْمَخِيطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ في حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ وَلَوْ لم يَجِدْ رِدَاءً وَلَهُ قَمِيصٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُقَّ قَمِيصَهُ وَيَرْتَدِيَ بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا شَقَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ وَكَذَا إذَا لم يَجِدْ إزَارًا وَلَهُ سَرَاوِيلُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتُقَ سَرَاوِيلَهُ خَلَا مَوْضِعِ التِّكَّةِ وَيَأْتَزِرَ بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَقَهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ. وَكَذَا إذَا لم يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَهُ خُفَّانِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسَهُمَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَرَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرُونَ لُبْسَ الصَّنْدَلَةِ قِيَاسًا على الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ لِأَنَّهُ في مَعْنَاهُ وَكَذَا لُبْسُ الْمِيثَمِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَلْبَسُ الْجَوْرَبَيْنِ لِأَنَّهُمَا في مَعْنَى الْخُفَّيْنِ وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ بِالْعِمَامَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عن تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ بِمَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في الْمُحْرِمِ الذي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ في أحافيق [أخاقيق] حردان [جرذان] فَمَاتَ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فإنه يُبْعَثُ يوم الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا وَلَوْ حَمَلَ على رَأْسِهِ شيئا فَإِنْ كان مِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ من لِبَاسِ الناس لَا يَجُوزُ له ذلك لِأَنَّهُ كَاللُّبْسِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ كَإِجَّانَةٍ أو عِدْلِ بَزٍّ وَضَعَهُ على رَأْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ ذلك لُبْسًا وَلَا تَغْطِيَةً وَكَذَا لَا يُغَطِّي الرَّجُلُ وَجْهَهُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ له تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُغَطِّي وَجْهَهَا وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تُسْدِلَ على وَجْهِهَا بِثَوْبٍ وَتُجَافِيَهُ عن وَجْهِهَا. احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إحْرَامُ الرَّجُلِ في رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ في وَجْهِهَا جَعَلَ إحْرَامَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في مَحَلٍّ خَاصٍّ وَلَا خُصُوصَ مع الشَّرِكَةِ وَلِهَذَا لَمَّا خَصَّ الْوَجْهَ في الْمَرْأَةِ بِأَنَّ إحْرَامَهَا فيه لم يَكُنْ في رَأْسِهَا فَكَذَا في الرَّجُلِ وَلِأَنَّ مبني أَحْوَالِ الْمُحْرِمِ على خِلَافِ الْعَادَةِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ الْعَادَةَ هو الْكَشْفُ في الرِّجَالِ فَكَانَ السَّتْرُ على خِلَافِ الْعَادَةِ بِخِلَافِ النِّسَاءِ فإن الْعَادَةَ فِيهِنَّ السَّتْرُ فَكَانَ الْكَشْفُ خِلَافَ الْعَادَةِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إحْرَامُ الرَّجُلِ في رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَلَا حُجَّةَ له فِيمَا روي لِأَنَّ فيه أَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ في رَأْسِهِ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ في وَجْهِهِ وَلَا يُوجِبُ أَيْضًا فَكَانَ مَسْكُوتًا عنه فَيَقِفُ على قِيَامِ الدَّلِيلِ وقد قام الدَّلِيلُ وهو ما رَوَيْنَا وَهَكَذَا نَقُولُ في الْمَرْأَةِ إنا إنَّمَا عَرَفْنَا أَنَّ إحْرَامَهَا ليس في رَأْسِهَا لا بِقَوْلِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ في وَجْهِهَا بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إن شاء الله تعالى. وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا أُصْبِغَ بِوَرْسٍ أو زَعْفَرَانٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مَخِيطًا لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ طِيبٌ وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ من اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ في بَدَنِهِ وَلَا يَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وهو الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها لَبِسَتْ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنْكَرَ على عبد اللَّهِ بن جَعْفَرٍ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ في الْإِحْرَامِ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه ما أَرَى أَنَّ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ وَلَنَا ما روى أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنْكَرَ على طَلْحَةَ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ في الْإِحْرَامِ فقال طَلْحَةُ رضي اللَّهُ عنه إنَّمَا هو مُمَشَّقٌ بِمَغْرَةٍ فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه إنكم أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ فَدَلَّ إنْكَارُ عُمَرَ وَاعْتِذَارُ طَلْحَةَ رضي اللَّهُ عنهما على أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ من ذلك وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُمَشَّقَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ قال إنَّكُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ أَيْ من شَاهَدَ ذلك رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِغَيْرِ الْمَغْرَةِ فَيَعْتَقِدُ الْجَوَازَ فَكَانَ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ في الْحَرَامِ عَسَى فَيُكْرَهُ وَلِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ طِيبٌ لِأَنَّ له رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ كَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَدْ رُوِيَ عنها أنها كَرِهَتْ الْمُعَصْفَرَ في الْإِحْرَامِ أو يُحْمَلُ على الْمَصْبُوغِ بِمِثْلِ الْعُصْفُرِ كَالْمَغْرَةِ وَنَحْوِهَا وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِ عمر [علي] رضي اللَّهُ عنه على أَنَّ قَوْلَهُ مُعَارِضٌ بِقَوْلِ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه وهو إنْكَارُهُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلتَّعَارُضِ هذا إذَا لم يَكُنْ مَغْسُولًا فَأَمَّا إذَا كان قد غُسِلَ حتى صَارَ لَا يَنْفُضُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا بَأْسَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ بِوَرْسٍ أو زَعْفَرَانٍ قد غُسِلَ وَلَيْسَ له نَفْضٌ وَلَا رَدْغٌ. وَقَوْله صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَنْفُضُ له تَفْسِيرَانِ مَنْقُولَانِ عن مُحَمَّدٍ روى عنه لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ وَرُوِيَ لَا يَفُوحُ رِيحُهُ وَالتَّعْوِيلُ على زَوَالِ الرَّائِحَةِ حتى لو كان لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ وَلَكِنْ يَفُوحُ رِيحُهُ يُمْنَعُ منه لِأَنَّ ذلك دَلِيلُ بَقَاءِ الطِّيبِ إذْ الطِّيبُ ما له رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَكَذَا ما صُبِغَ بِلَوْنِ الْهَرَوِيِّ لِأَنَّهُ صِبْغٌ خَفِيفٌ فيه أَدْنَى صُفْرَةٍ لَا تُوجَدُ منه رَائِحَةٌ وقال أبو يُوسُفَ في الْإِمْلَاءِ لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَوَسَّدَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ وَلَا الْوَرْسِ وَلَا يَنَامُ عليه لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمِلًا لِلطِّيبِ فَكَانَ كَاللُّبْسِ وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَزِّ وَالصُّوفِ وَالْقَصَبِ وَالْبُرْدِ وَإِنْ كان مُلَوَّنًا كَالْعَدَنِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ ليس فيه أَكْثَرُ من الزِّينَةِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ من ذلك وَلَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ الطَّيْلَسَانَ لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ ليس بِمَخِيطٍ وَلَا يَزُرُّهُ كَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّ الزِّرَةَ مَخِيطٌ في نَفْسِهَا فإذا زَرَّهُ فَقَدْ اشْتَمَلَ الْمَخِيطُ عليه فَيُمْنَعُ منه وَلِأَنَّهُ إذَا زرة لَا يَحْتَاجُ في حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفِ فَأَشْبَهَ لُبْسَ الْمَخِيطِ بِخِلَافِ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ وَيُكْرَهُ أَنْ يُخَلِّلَ الْإِزَارَ بِالْخِلَالِ وَأَنْ يَعْقِدَ الْإِزَارَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَأَى مُحْرِمًا قد عَقَدَ ثَوْبَهُ بِحَبْلٍ فقال له انْزِعْ الْحَبْلَ وَيْلَكَ وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ الثَّوْبَ عليه وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ في عَدَمِ الْحَاجَةِ في حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ وَلَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ ليس بِمَخِيطٍ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَحَزَّمَ بِعِمَامَةٍ يَشْتَمِلُ بها وَلَا يَعْقِدُهَا لِأَنَّ اشْتِمَالَ الْعِمَامَةِ عليه اشْتِمَالُ غَيْرِ الْمَخِيطِ فَأَشْبَهَ الِاتِّشَاحَ بِقَمِيصٍ فَإِنْ عَقَدَهَا كُرِهَ له ذلك لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ كَعَقْدِ الْإِزَارِ وَلَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ سَوَاءٌ كان في الْهِمْيَانِ نَفَقَتُهُ أو نَفَقَةُ غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ كان شَدَّ الْمِنْطَقَةَ بِالْإِبْزِيمِ أو بِالسُّيُورِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ في الْمِنْطَقَةِ إنْ شَدَّهُ بِالْإِبْزِيمِ يُكْرَهُ وَإِنْ شَدَّهُ بِالسُّيُورِ لَا يُكْرَهُ وقال مَالِكٌ في الْهِمْيَانِ إنْ كان فيه نَفَقَتُهُ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كان فيه نَفَقَةُ غَيْرِهِ يُكْرَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ شَدَّ الْهِمْيَانِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ اسْتِيثَاقُ النَّفَقَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في نَفَقَةِ غَيْرِهِ وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِبْزِيمَ مَخِيطٌ فَالشَّدُّ بِهِ يَكُونُ كَزِرِّ الْإِزَارِ بِخِلَافِ السَّيْرِ. وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها سُئِلَتْ عن الْهِمْيَانِ فقالت أَوْثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك أَطْلَقَتْ الْقَضِيَّةَ ولم تَسْتَفْسِرْ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قال رَخَّصَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْهِمْيَانِ يَشُدُّهُ الْمُحْرِمُ في وَسَطِهِ إذَا كانت فيه نَفَقَتُهُ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ من التَّابِعِينَ وَرُوِيَ عن سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا بَأْسَ بالهيمان [بالهميان] وهو قَوْلُ سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلِأَنَّ اشْتِمَالَ الْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ عليه كَاشْتِمَالِ الْإِزَارِ فَلَا يُمْنَعُ عنه وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ الْمُحْرِمُ بِالْفُسْطَاطِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ يُكْرَهُ وَاحْتَجَّ بما بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَرِهَ ذلك وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يلقى على شَجَرَةٍ ثَوْبًا أو نِطْعًا فَيَسْتَظِلُّ بِهِ وروى أَنَّهُ ضُرِبَ لِعُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه فسطاطا [فسطاط] بِمِنًى فَكَانَ يَسْتَظِلُّ بِهِ وَلِأَنَّ الِاسْتِظْلَالَ بِمَا لَا يُمَاسُّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالسَّقْفِ وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عنه كَذَا هذا فَإِنْ دخل تَحْتَ سِتْرِ الْكَعْبَةِ حتى غَطَّاهُ فَإِنْ كان السِّتْرُ يُصِيبُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ يُكْرَهُ له ذلك لِأَنَّهُ يُشْبِهُ سَتْرَ وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ بِثَوْبٍ وَإِنْ كان مُتَجَافِيًا فَلَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ تَحْتَ ظُلَّةٍ وَلَا بَأْسَ أَنْ تُغَطِّيَ الْمَرْأَةُ سَائِرَ جَسَدِهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ بِمَا شَاءَتْ من الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ وَغَيْرِهَا وَأَنْ تَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ غير أنها لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا أَمَّا سَتْرُ سَائِرِ بَدَنِهَا فَلِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ بِمَا ليس بِمَخِيطٍ مُتَعَذَّرٌ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى لُبْسِ الْمَخِيطِ وَأَمَّا كَشْفُ وَجْهِهَا فَلِمَا رَوَيْنَا عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إحْرَامُ الْمَرْأَةِ في وَجْهِهَا وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت كان الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فإذا حَاذَوْنَا أَسْدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبابهَا من رَأْسِهَا على وَجْهِهَا فإذا جَاوَزُونَا رَفَعْنَا. فَدَلَّ الْحَدِيثُ على أَنَّهُ ليس لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا وَأَنَّهَا لو أَسْدَلَتْ على وَجْهِهَا شيئا وَجَافَتْهُ عنه لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَلِأَنَّهَا إذَا جَافَتْهُ عن وَجْهِهَا صَارَ كما لو جَلَسَتْ في قُبَّةٍ أو اسْتَتَرَتْ بِفُسْطَاطٍ وَلَا بَأْسَ لها أَنْ تَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ وَتَتَحَلَّى بِأَيِّ حِلْيَةٍ شَاءَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذلك وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان يُلْبِسُ نِسَاءَهُ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ في الْإِحْرَامِ وَلِأَنَّ لُبْسَ هذه الْأَشْيَاءِ من باب التَّزَيُّنِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ من الزِّينَةِ وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا لِأَنَّ الْمَانِعَ ما فيه من الصَّبْغِ من الطِّيبِ لَا من الزِّينَةِ وَالْمَرْأَةُ تُسَاوِي الرَّجُلَ في الطِّيبِ وَأَمَّا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فإنه ذَكَرَ في آخِرِهِ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ في بَدَنِهَا السَّتْرُ فَيَجِبُ مُخَالَفَتُهَا بِالْكَشْفِ كَوَجْهِهَا وَلَنَا ما روى أَنَّ سَعْدَ بن أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عنه كان يُلْبِسُ بَنَاتِهِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ الْقُفَّازَيْنِ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ ليس إلَّا تَغْطِيَةَ يَدَيْهَا بِالْمَخِيطِ وإنها غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عن ذلك فإن لها أَنْ تُغَطِّيَهُمَا بِقَمِيصِهَا وَإِنْ كان مَخِيطًا فَكَذَا بِمِخْيَطٍ آخَرَ بِخِلَافِ وَجْهِهَا وَقَوْلُهُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ نَهْيُ نَدْبٍ حَمَلْنَاهُ عليه جَمْعًا بين الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجِبُ بِفِعْلِ هذا الْمَحْظُورِ وهو لُبْسُ الْمَخِيطِ فَالْوَاجِبُ بِهِ يَخْتَلِفُ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَجِبُ الدَّمُ عَيْنًا وفي بَعْضِهَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَيْنًا وفي بَعْضِهَا يَجِبُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ غير عَيْنِ الصِّيَامِ أو الصَّدَقَةِ أو الدَّمِ وَجِهَاتُ التَّعْيِينِ إلَى من عليه كما في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ بِاللُّبْسِ يُوجِبُ فِدَاءً كَامِلًا فَيَتَعَيَّنُ فهي [فيه] الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ إنْ فَعَلَهُ من غَيْرِ عُذْرٍ وَإِنْ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَالِارْتِفَاقُ الْقَاصِرُ يُوجِبُ فِدَاءً قَاصِرًا وهو الصَّدَقَةُ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ على قَدْرِ الْعِلَّةِ وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ من قَمِيصٍ أو جُبَّةٍ أو سَرَاوِيلَ أو عِمَامَةٍ أو قَلَنْسُوَةٍ.
أو خُفَّيْنِ أو جَوْرَبَيْنِ من غَيْرِ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ لِأَنَّ لُبْسَ أَحَدِ هذه الْأَشْيَاءِ يَوْمًا كَامِلًا ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً وَهِيَ الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِنْ لَبِسَ أَقَلَّ من يَوْمٍ لَا دَمَ عليه وَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وكان أبو حَنِيفَةَ يقول أَوَّلًا إنْ لَبِسَ أَكْثَرَ الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا دَمَ عليه حتى يَلْبَسَ يَوْمًا كَامِلًا وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَقَلَّ من يَوْمٍ يُحْكَمُ عليه بِمِقْدَارِ ما لَبِسَ من قِيمَةِ الشَّاةِ إنْ لَبِسَ نِصْفَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ على هذا الْقِيَاسِ وَهَكَذَا رُوِيَ عنه في الْحَلْقِ وقال الشَّافِعِيُّ يَجِبُ عليه الدَّمُ وَإِنْ لَبِسَ سَاعَةً وَاحِدَةً وَجْهُ قَوْلِهِ إن اللُّبْسَ وَلَوْ سَاعَةً ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ لِوُجُودِ اشْتِمَالِ الْمَخِيطِ على بَدَنِهِ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِاللُّبْسِ في أَكْثَرِ الْيَوْمِ بِمَنْزِلَةِ الِارْتِفَاقِ في كل [كله] لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فإن الْإِنْسَانَ قد يَلْبَسُ أَكْثَرَ الْيَوْمِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى مَنْزِلِهِ قبل دُخُولِ اللَّيْلِ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ إن اللُّبْسَ أَقَلُّ من يَوْمِ ارْتِفَاقٍ نَاقِصٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَذَلِكَ بِاللُّبْسِ في كل الْيَوْمِ وَلِهَذَا اتَّخَذَ الناس في الْعَادَةِ لِلنَّهَارِ لِبَاسًا وَلِلَّيْلِ لِبَاسًا وَلَا يَنْزِعُونَ لِبَاسَ النَّهَارِ إلَّا في اللَّيْلِ فَكَانَ اللُّبْسُ في بَعْضِ الْيَوْمِ ارْتِفَاقًا قَاصِرًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً وَهِيَ الصَّدَقَةُ كَقَصِّ ظُفْرٍ وَاحِدٍ وَمِقْدَارُ الصَّدَقَةِ نِصْفُ صَاعٍ من بُرٍّ كَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُطْعِمُ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ وَكُلُّ صَدَقَةٍ تَجِبُ بِفِعْلِ ما يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ صَاعٍ إلَّا ما يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ. وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ من لَبِسَ ثَوْبًا يَوْمًا إلَّا سَاعَةً فَعَلَيْهِ من الدَّمِ بِمِقْدَارِ ما لَبِسَ أَيْ من قِيمَةِ الدَّمِ لِمَا قُلْنَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُقَدَّرَةَ لِلْمِسْكِينِ في الشَّرْعِ لَا تَنْقُصُ عن نِصْفِ صَاعٍ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْفِطْرِ وَالظِّهَارِ وَكَذَا لو أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ في الْقَبَاءِ ولم يُدْخِلْ يَدَيْهِ في كُمَّيْهِ لَكِنَّهُ زَرَّهُ عليه أو زَرَّ عليه طَيْلَسَانًا يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ إذْ الْمُزَرَّرُ مَخِيطٌ وَكَذَا لو غَطَّى رُبْعَ رَأْسِهِ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ كان أَقَلَّ من الرُّبْعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَذَا ذُكِرَ في الإصل وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا دَمَ عليه حتى يُغَطِّيَ الْأَكْثَرَ من رَأْسِهِ وَلَا أَقُولُ حتى يُغَطِّيَ رَأْسَهُ كُلَّهُ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ تَغْطِيَةَ الْأَقَلِّ ليس بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ فَلَا يَجِبُ بِهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ رُبْعَ الرَّأْسِ له حُكْمُ الْكُلِّ في هذا الْباب كَحَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ وَعَلَى هذا إذَا غَطَّتْ الْمَرْأَةُ رُبْعَ وَجْهِهَا وَكَذَا لو غَطَّى الرَّجُلُ رُبْعَ وَجْهِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عن ذلك عِنْدَهُ وَالْمَسْأَلَةُ قد تَقَدَّمَتْ وَلَوْ عَصَبَ على رَأْسِهِ أو وَجْهِهِ يَوْمًا أو أَكْثَرَ فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عن التَّغْطِيَةِ وَلَوْ عَصَبَ شيئا من جَسَدِهِ لِعِلَّةٍ أو غَيْرِ عِلَّةٍ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عن تَغْطِيَةِ بَدَنِهِ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذلك بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّ الشَّدَّ عليه يُشْبِهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ هذا إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ يَوْمًا كَامِلًا حَالَةَ الِاخْتِيَارِ فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ أَيْ الْكَفَّارَاتُ شَاءَ الصِّيَامَ أو الصَّدَقَةَ أو الدَّمَ وَالْأَصْلُ فيه قَوْله تَعَالَى في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ من مَرَضٍ أو أَذًى في الرَّأْسِ: {فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ}. وَرَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِكَعْبِ بن عُجْرَةَ أَيُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك قال نعم فقال احْلِقْ وَاذْبَحْ شَاةً أو صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أو أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ من بُرٍّ وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ بِالتَّخْيِيرِ في الْحَلْقِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ لِلضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ وقد وُجِدَ هَهُنَا وَالنَّصُّ الْوَارِدُ هُنَاكَ يَكُونُ وَارِدًا هَهُنَا دَلَالَةً وَقِيلَ إنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَخَيَّرُ بين أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أَيْضًا وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ في حَالِ الضَّرُورَةِ لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ وَيَجُوزُ في الطَّعَامِ التَّمْلِيكُ وَالتَّمْكِينُ وهو طَعَامُ الْإِبَاحَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ فيه إلَّا التَّمْلِيكُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في كتاب الْكَفَّارَاتِ إن شاء الله تعالى. وَيَجُوزُ في الصِّيَامِ التَّتَابُعُ وَالتَّفَرُّقُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الصَّوْمِ في النَّصِّ وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا في الْحَرَمِ كَذَبْحِ الْمُتْعَةِ إلَّا إذَا ذَبَحَ في غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ على سِتَّةِ مَسَاكِينَ على كل وَاحِدٍ منهم قَدْرُ قِيمَةِ نِصْفِ صَاعٍ من حِنْطَةٍ فَيَجُوزُ على طَرِيقِ الْبَدَلِ عن الطَّعَامِ وَيَجُوزُ الصَّوْمُ في الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُجْزِيه إلَّا بِمَكَّةَ نَظَرًا لِأَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ الدَّمُ إلَّا بِمَكَّةَ وَلَنَا إن نَصَّ الصَّدَقَةِ مُطْلَقٌ عن الْمَكَانِ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَالْقِيَاسُ على الدَّمِ بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ فَاسِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا في الْإِحْصَارِ وَإِنَّمَا عُرِفَ اخْتِصَاصُ جَوَازِ الذَّبْحِ بِمَكَّةَ بِالنَّصِّ وهو قَوْله تَعَالَى: {حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ولم يُوجَدْ مِثْلُهُ في الصَّدَقَةِ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لم يَجِدْ الْإِزَارَ وَأَمْكَنَهُ فَتْقُ السَّرَاوِيلِ وَالتَّسَتُّرُ بِهِ فَتَقَهُ فَإِنْ لَبِسَهُ يَوْمًا ولم يَفْتُقْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ يَلْبَسُهُ وَلَا شَيْءَ عليه وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِلُبْسِ مَحْظُورٍ وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ في هذه الْحَالَةِ ليس بِمَحْظُورٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ لُبْسُ غَيْرِ الْمَخِيطِ إلَّا بِالْفَتْقِ وفي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ. وَلَنَا أَنَّ حَظْرَ لُبْسِ الْمَخِيطِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَيُمْكِنُهُ التَّسَتُّرُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ في هذه الْحَالَةِ بِالْفَتْقِ فَيَجِبُ عليه الْفَتْقُ وَالسَّتْرُ بِالْمَفْتُوقِ أَوْلَى فإذا لم يَفْعَلْ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَقَوْلُهُ في الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَالزَّكَاةِ وَقَطْعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ من الْكَعْبَيْنِ إذَا لم يَجِدْ النَّعْلَيْنِ وَيَسْتَوِي في وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِلُبْسِ الْمِخْيَطِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ على النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ ويستوى أَيْضًا ما إذَا لَبِسَ بِنَفْسِهِ أو أَلْبَسَهُ غَيْرُهُ وهو لَا يَعْلَمُ بِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا له وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً وَلَا حَظْرَ مع النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَلِهَذَا جُعِلَ النِّسْيَانُ عُذْرًا في باب الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْإِكْرَاهُ عِنْدِي وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ في حَالِ الذِّكْرِ وَالطَّوْعِ لِوُجُودِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ وَهَذَا يُوجَدُ في حَالِ الْكُرْهِ وَالسَّهْوِ وَقَوْلُهُ فِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَظْرُ قَائِمٌ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ وَفِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً وَإِنَّمَا أَثَّرَ النِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ في ارْتِفَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ في الْآخِرَةِ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عليه عَقْلًا عِنْدَنَا وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ شَرْعًا بِبَرَكَةِ دعاء [دعا] النبي صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا}. وَقَوْلُهُ: رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه؟ وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّوْمِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ في الْإِحْرَامِ أَحْوَالًا مُذَكِّرَةً يَنْدُرُ النِّسْيَانُ مَعَهَا غَايَةَ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَلَا مُذَكِّرَ لِلصَّوْمِ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَلِهَذَا لم يُجْعَلْ عُذْرًا في باب الصَّلَاةِ لِأَنَّ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ كَذَا هذا وَلَوْ جَمَعَ الْمُحْرِمُ اللِّبَاسَ كُلَّهُ الْقَمِيصَ وَالْعِمَامَةَ وَالْخُفَّيْنِ لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لُبْسٌ وَاحِدٌ وَقَعَ على جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْإِيلَاجَاتِ في الْجِمَاعِ وَلَوْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ فَإِنْ لَبِسَهُمَا على مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ بِأَنْ اضْطَرَّ إلَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ أو قَمِيصًا وَجُبَّةً أو اُضْطُرَّ إلَى الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَ قَلَنْسُوَةً وَعِمَامَةً لِأَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ على وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً كما إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ جُبَّةً وَإِنْ لَبِسَهُمَا على مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ كما إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ الْعِمَامَةِ أو الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَهُمَا مع الْقَمِيصِ أو غَيْرِ ذلك فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ لِلُبْسِهِ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَكَفَّارَةُ الِاخْتِيَارِ لِلُبْسِهِ ما لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ ثُمَّ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَدَامَ على ذلك يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ فما دَامَ في شَكٍّ من زَوَالِ الضَّرُورَةِ لَا يَجِبُ عليه إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ وَإِنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ قد زَالَتْ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ وَكَفَّارَةُ اخْتِيَارٍ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ كانت ثَابِتَةً بقين [بيقين] فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أن الثَّابِتَ يَقِينًا لَا يَزَالُ بِالشَّكِّ وإذا كان كَذَلِكَ فَاللُّبْسُ الثَّانِي وَقَعَ على الْوَجْهِ الذي وَقَعَ عليه الْأَوَّلُ فَكَانَ لُبْسًا وَاحِدًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وإذا اسْتَيْقَنَ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ فَاللُّبْسُ الثَّانِي حَصَلَ على غَيْرِ الْوَجْهِ الذي حَصَلَ عليه الْأَوَّلُ فَيُوجِبُ عليه كَفَّارَةً أُخْرَى وَنَظِيرُ هذا ما إذَا كان بِهِ قَرْحٌ أو جُرْحٌ اضْطَرَّ إلَى مُدَاوَاتِهِ بِالطِّيبِ أَنَّهُ ما دَامَ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كان تَكَرَّرَ عليه الدَّوَاءُ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بَاقِيَةٌ فَوَقَعَ الْكُلُّ على وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلَوْ بَرَأَ ذلك الْقَرْحُ أو الْجُرْحُ وَحَدَثَ قَرْحٌ آخَرُ أو جِرَاحَةٌ أُخْرَى فداواها [فداوها] بِالطِّيبِ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قد زَالَتْ فَوَقَعَ الثَّانِي على غَيْرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا مَرِضَ أو أَصَابَتْهُ الْحُمَّى وهو يَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ الثَّوْبِ في وَقْتٍ وَيَسْتَغْنِي عنه في وَقْتِ الْحُمَّى فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ما لم تَزُلْ عنه تِلْكَ الْعِلَّةُ لِحُصُولِ اللُّبْسِ على جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ زَالَتْ عنه تِلْكَ الْحُمَّى وَأَصَابَتْهُ حُمَّى أُخْرَى عَرَفَ ذلك أو زَالَ عنه ذلك الْمَرَضُ وَجَاءَهُ مَرَضٌ آخَرُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أو لم يُكَفِّرْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عليه كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ما لم يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَإِنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ في بَيَانِ الْمَحْظُورِ الذي يُفْسِدُ الْحَجَّ وهو الْجِمَاعُ بِأَنْ جَامَعَ في مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ جُرِحَ له قَرْحٌ أو أَصَابَهُ جُرْحٌ وهو يُدَاوِيهِ بِالطِّيبِ فَخَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى أو أَصَابَهُ جُرْحٌ آخَرُ وَالْأَوَّلُ على حَالِهِ لم يَبْرَأْ فَدَاوَى الثَّانِي فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لم يَبْرَأْ فَالضَّرُورَةُ بَاقِيَةٌ فَالْمُدَاوَاةُ الثَّانِيَةُ حَصَلَتْ على الْجِهَةِ التي حَصَلَتْ عليها الْأُولَى فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ فَاحْتَاجَ إلَى لُبْسِ الثِّيَابِ فَلَبِسَ ثُمَّ ذَهَبَ فَنَزَعَ ثُمَّ عَادَ فَعَادَ أو كان الْعَدُوُّ لم يَبْرَحْ مَكَانَهُ فَكَانَ يَلْبَسُ السِّلَاحَ فَيُقَاتِلُ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُ بِاللَّيْلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ما لم يَذْهَبْ هذا الْعَدُوُّ وَيَجِيءُ عَدُوٌّ آخَرُ لِأَنَّ الْعُذْرَ وَاحِدٌ وَالْعُذْرُ الْوَاحِدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّبْسِ له إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَالْأَصْلُ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى اتِّحَادِ الْجِهَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا إلَى صُورَةِ اللُّبْسِ فَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ أَيَّامًا فَإِنْ لم يَنْزِعْ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ اللُّبْسَ على وَجْهٍ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ إذَا كان بلبسه [يلبسه] بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُهُ بِاللَّيْلِ لِلنَّوْمِ من غَيْرِ أَنْ يَعْزِمَ على تَرْكِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْزِمْ على التَّرْكِ كان اللُّبْسُ على وَجْهٍ وَاحِدٍ فَإِنْ لَبِسَ يَوْمًا كَامِلًا فَأَرَاقَ دَمًا ثُمَّ دَامَ على لُبْسِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الدَّوَامَ على اللُّبْسِ بِمَنْزِلَةِ لُبْسِ مُبْتَدَأٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو أَحْرَمَ وهو مُشْتَمِلٌ على الْمَخِيطِ فَدَامَ عليه بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَوْمًا كَامِلًا يَلْزَمُهُ دَمٌ وَلَوْ لَبِسَهُ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ نَزَعَهُ وَعَزَمَ على تَرْكِهِ ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ ذلك فَإِنْ كان كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَقَدْ الْتَحَقَ اللُّبْسُ الْأَوَّلُ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا آخَرَ مُبْتَدَأً وإن لم يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ عليه كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ ما لم يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ كان اللُّبْسُ على حَالِهِ فإذا وُجِدَ الثَّانِي فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وإذا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ بَطَلَ الْأَوَّلُ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا ثَانِيًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى كما إذَا جَامَعَ في يَوْمَيْنِ من شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَعَ على عَزْمِ التَّرْكِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ اللُّبْسِ الْأَوَّلِ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا مُبْتَدَأً فَيَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى. وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النَّزْعَ على عَزْمِ التَّرْكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ اللُّبْسَتَيْنِ في الْحُكْمِ تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ أولا وَعِنْدَهُ لَا يَخْتَلِفُ إلَّا إذَا تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالْوَرْسِ أو الزَّعْفَرَانِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ لَهُمَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَقَدْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ في بَدَنِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَكَذَا إذَا لَبِسَ الْمُعَصْفَرَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ عِنْدنَا إذْ الْمُعَصْفَرُ طِيبٌ لِأَنَّ له رَائِحَةً طَيِّبَةً وَعَلَى الْقَارِنِ في جَمِيعِ ما يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ مَثَلًا ما على الْمُفْرِدِ من الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَأَدْخَلَ النَّقْصَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ وَالله أعلم. بِالصَّوَابِ.
|